/ الفَائِدَةُ : (11) /
08/04/2025
بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على محمد واله الطاهرين ، واللَّعنة الدَّائمة على أَعدائهم اجمعين. / المدار في المعرفة على مجموع مُحْكَمَات التَّشريع / هناك لغط وتساؤل دار قروناً بين علماء العلوم الإِسلاميَّة في مصدر المعرفة الإِسلاميَّة ؛ فهل هو : الكتاب الكريم فقط ، أَو السُّنَّة الشَّريفة فحسب ، أَو العقل وحده ، أَو الوجدان والمشاهدة فقط؟ فيه وجوه ومذاهب . وقد أَشار بيان قوله تعالىٰ: [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا](1)، وبيان حديث الثقلين الوارد عن سيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله : «... وإِنِّي تارك فيكم الثقلين، أَحدهما أَعظم من الآخر: كتاب الله حبلٌ ممدودٌ من السَّماء إِلى الأَرض، وعترتي أَهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهم»(2)، إِلى الأَوَّل والثاني. وَأَشار بيان قوله عزَّ من قائل: [لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ](3) إِلى الثالث. وَأَشار بيان قوله تقدَّس ذكره: [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ](4) إِلى الرَّابع. وقد ذهبت كُلُّ مَدْرَسَةٍ إِلى نزعةٍ مُعيَّنةٍ: فذهب الُمتكلِّمون والمُفسِّرون والمُحدِّثون إِلى الثلاثة الأُوَل. وذهب الأَخباريُّون إِلى الثاني. وذهب الفلاسفة وَمَنْ خضع إِلى البحوث العقليَّة إِلى الثالث. وذهب العرفاء والصُّوفية إِلى الرَّابع . والحقُّ وما عليه التَّحقيق ونضجت فيه البحوث ـ لا سيما لدىٰ اتباع مَدْرَسَة أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ـ طوال هذه القرون: أَنَّ المصدر هو المجموع ؛ لكن بديهيَّات هذه المصادر، والمُعَبَّر عنها في بيانات الوحي بـ : (المُحْكَمَات)، وهي علىٰ مراتب ، والمرتبة النَّازلة تدور وتُعرض علىٰ المرتبة الصَّاعدة والأَقوىٰ منها. وبالجملة: متشابهات هذه المصادر الأَربعة تُعْرَض علىٰ مُحْكَمَاتها، والمُحْكَمَات علىٰ مراتب، والمرتبة النَّازلة منها تدور وتُعْرَض علىٰ المرتبة الصَّاعِدة والأَقوىٰ، فكُلُّ مرتبةٍ من المُحْكَمَات مُحْكَم بلحاظ المراتب النَّازلة، ومتشابه بلحاظ المراتب الصَّاعدة ؛ فالحسُّ ـ مثلاً ـ بعد ما كان مصدراً من مصادر اليقين مُحْكَمٌ بلحاظ ما تحته من مراتب، وظنٌّ ومتشابه بلحاظ ما فوقه من مراتب اليقين. وهذا ما تُشير إِليه بيانات الوحي، منها : بیان قوله جلَّ شأنه المُقْتَصّ لخبر بني إِسرائيل: [وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا](5). فبني إِسرائيل اِدّعوا قتل النَّبيّ عيسىٰ عليه السلام اِعتماداً علىٰ الحسّ والُمشاهدة، لكنَّه عَزَّ وَجَلَّ سمَّاهما ظنّاً مُتشابهاً، وطعن عليهم باتِّباعهم له ؛ فإِنَّ الحسّ والمُشاهدة وإِنْ كانا في نفسيهما يُفيدان مرتبة من العِلْمِ واليقين ـ مالم يُعَارَضَا بنوع يقينٍ أَرفع منهما ـ لكنَّه بعدما عُوْرِضَا بيقينٍ أَرفع منهما وأَرقىٰ حُجِّيَّة أَصبحا ظَنّاً مُتشابهاً لا يصحُّ الِاعتماد عليه في العقائد ؛ فبني إِسرائيل شاهدوا معاجز صدرت من النَّبيّ عيسىٰ عليه السلام أَورثت لهم يقيناً وحيانيّاً بنبوَّته، وهو أَرفع من اليقين العقلي فضلاً عن اليقين الحسِّي، وقد أَخبرهم عليه السلام : أَنَّه سيبقىٰ حيّاً إِلى ظهور الإِمام الحُجَّة ابن الحسن عجل الله تعالى فرجه ، وهذه معجزة، لكنَّهم لم يتَّبعوها؛ لتركهم قول صاحب المعجزة، واتَّبعوا الحسّ والمشاهدة، وهما وإِنْ كانا يُوْرِثَان الْعِلْم واليقين والحُجِّيَّة أَيضاً لكنَّهما بالقياس إِلى مُخَالَفة ما هو أَقوىٰ يقيناً وحُجِّيَّة من المعاجز واليقين والحُجِّيَّة الوحيانيَّة صارا ظنّاً مُتشابهاً. وبالجملة: أَنَّ كُلَّ مِحْوَرٍ من هذه المَحَاوِر الأَربعة فيه مساحة مبدَّهة ـ تُسمَّىٰ مُحْكَم ـ ومنطقة مركزيَّة، بينها ترابط ومُحاذاة وموازاة . وهذه مُعَادَلَةٌ صَعْبَةٌ ، فيها تراكيب هندسيَّة مُعَقَّدة، وهذا من بديع ما كشفت عنه بيانات الوحي الباهرة . وصلى الله على محمد واله الاطهار . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) آل عمران: 7. (2) بحار الأَنوار، 10: 369/ح18. (3) ص: 29. (4) ق: 37. (5) النساء: 157